كتب محمد عبدالوهاب الشيباني:صورتان من تعز .. الذكرى متقدة مثل نار مقدسة

رواها 360:

الديون الكبيرة والكثيرة التي راكمتها مدينة تعز في رقبتي لا يمكن حصرها، ودهشة الاكتشاف هي أكثرها لمعاناً في ذاكرتي، لأنها الأكثر ثقلا في هذه الديون . فمنذ أتيتها طفلا في الثامنة في العام 1974 وهي تحفر بداخلي سيرتها في الأشياء والناس ، ومنذ سنوات طويلة وهي تستنهض عندي و في كل حين رغبة الكتابة كلما خطر ببالي خاطر وجه أو معلم أو واقعة لم تمح من لوح التذكر في هذه السيرة، التي صارت مع الأيام لحظة استرجاع مشهدية متقدة، لم تطفئها رمال العمر أو مياه التهالك التي يصبّها الخراب في الروح .
فمثلا أول ما وقعت عيني ، ومنذ سنوات،على صورة الأستاذة أروى عثمان للمرحوم “غالب مخسو” ومقهاه ، تذكرت تعز المتنوعة؛ تذكرت الجحملية بخصوصيتها الثقافية، تذكرت تحضيره للبُّن المحلَّب والشاهي المفوَّر بذات الطريقة التي يُحضر بها في مقاهي صنعاء العتيقة بالدافور السويدي أو مواقد الجمر. تذكرت البِرعي الذي يحضَّر في المنازل القريبة من المقهى بذات طريقة تحضيره بباب اليمن أو باب السبح ، تذكرت الكُدَم الساخن الذي كان يُستجلب من فرن العسكر القريب، تذكرت الطرمبة (بلح الشام) التي لا تتشابه بغيرها في اليمن.
تذكرت اللهجة الهجينة التي تشكلت في هذا الحي من لهجات محلية متعددة . تذكرت النادي الأهلي وجمهوره المتعصب، تذكرت البساتين التي كانت تحوط المنازل القديمة في أطرافها، وكانت ذات وقت جزءً من ثعبات التاريخية ، تذكرت أيضاً الصورة الاشكالية التي كانت تُرسم عن الحي المختلف في الوعي التجزيئي.
وحين وجدت في أرشيفي صورة لعلي ناجي “علي مدرة” تذكرت المدينة القديمة بمعالمها الرسولية ولهجتها الخاصة وتذكرت الزي الذي يتقيف به رجالها المسنون، وحين تتذكر علي ناجي يعني أنك ستتذكر تحضيره للفول بالطريقة التقليدية في أوعية طينية وحجرية، فهو لا يستخدم الغاز في طبخه ويستبدله بالحطب وأحيانا بالكراتين، التي يضعها أسفل الجرائد الحديدية التي يضع عليها المواعين. أما الفول البلدي المنقوع والمنضَّج بوعاء من النحاس القديم فلا يدخل في تحضيره سوى البصل والثوم الأخضر والكبزرة والبهارات الحارقة، والسمن المحلَّب الذي حل محل السمن البلدي.
وحتى تنضج الطبخة عليك الانتظار طويلا وستبدد وقتك غالبا بسماع “عرعراته” لكل من يشاغبه من المارة أو تكاسل أحد ابنائه الذين يساعدونه، أما تناول فوله بالخمير التعزِّي المزيَّن بالحبة السوداء والشاهي الأحمر المنعنع الذي يحضِّره الأب على موقده الطيني الأبيض فهي اللذة بعينها.
إنها تعز الذكرى المدهشة والذاكرة التي تتقد بدواخلنا مثل نار مقدسة.
من صفحة الكاتب على فيسبوك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى